تركي الفيصل: إخضاع العلاقة الأميركية السعودية لقضية خاشقجي أمر غير صحي

التاريخ: الجمعة، 02 نوفمبر 2018م

شارك صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، في المؤتمر السنوي السابع والعشرين لصانعي السياسات العربية الأمريكية، الذي نظمه المجلس الوطني للعلاقات العربية الأمريكية في العاصمة واشنطن في واشنطن، يوم الأربعاء 22 صفر 1440هـ، 31 أكتوبر 2018م، وألقى سموه الكلمة الرئيسة في المؤتمر، والتي تناولت العلاقة الأميركية السعودية، وتعرض هذه العلاقة تتعرض للتهديد بسبب أزمة مقتل جمال خاشقجي، وأكد على أهمية المملكة ودورها الاستراتيجي المهم، إقليميّاً ودوليّاً. واستنكر سموه الحملة الإعلامية غير المنصفة على السعودية الملتزمة بجلب الجُناة في هذه القضية للمثول أمام العدالة ومحاكمتهم.


ومع نص كلمة الأمير تركي الفيصل:


الدكتور أنتوني، ورئيس وأعضاء مجلس العلاقات العربية الأمريكية

السيدات والسادة

لدينا مقولة عربية تعني: "ما أشبه الليلة بالبارحة"، بمعنى: كم يشبه اليوم في أحيان كثيرة الأمس. في هذا العصر من الارتباك الاستراتيجي، والشعبوية، والاستقطاب، فإن الحديث عن العلاقات السعودية الأمريكية يشكل تحديًا؛ فلأكثر من سبعين عاماً، انخرطت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في "علاقة خاصة"، وهو تحالف خدم المصالح الوطنية لكلا البلدين، طوال السبعين عاماً الماضية. هذه العلاقة المهمة رغم أنها لم تخلُ مطلقاً من توترات إلا أنها نجت وازدهرت، في ظل حكم ثلاثة عشر رئيساً أمريكياً وستة ملوك سعوديين. لقد أدركوا جميعاً مدى أهمية تلك المصالح المشتركة لكلا البلدين؛ فقد كانت العلاقة دائماً أكثر كثافة من الماء، إنْ جاز لي التعبير.  

لقد غيّرت أزمة حظر تصدير النفط عام 1973م والأحداث المأساوية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر، العوامل التي تؤثر في المصالح المشتركة المبنيّة على تلك العلاقة. ومع ذلك، وعلى الرغم من الهجوم المكثف على المملكة من قبل وسائل الإعلام والخبراء والسياسيين ومراكز الفكر والنقّاد المتسرّعين؛ إلا أن تلك العلاقات ما لبثت أن تعافت وانتعشت؛ بل اتسعت.

في هذه الأيام، توترت هذه العلاقة مرة أخرى. إن الجريمة المأساوية وغير المبررة التي وقعت في القنصلية السعودية في إسطنبول، والتي أودت بحياة جمال خاشقجي، رحمه الله، هي اليوم مادة الهجوم على المملكة العربية السعودية، وتشويه صورتها بنفس الأسلوب المتّبع في الأزمات السابقة. إن مَنْ طار بها فرحاً لم يكن منصفاً ولا أميناً ولا تخلو نواياه من الكيد والخبث. إن تعريض مستقبل علاقتنا لهذا هو أمر غير صحي على الإطلاق.

إن المملكة العربية السعودية ملتزمة بتقديم المسؤولين عن قتل جمال خاشقجي إلى العدالة، ومن قصّر وأهمل في تطبيق القانون، فإن العدالة ستأخذ مجراها.                    

السيدات والسادة

من هذا المنبر قلت مراراً وأكرّر: إن علاقتنا متينة وأكبر من أن تفشل. أعتقد أنها ستنجو وتعبر إلى برّ الأمان من هذه الأزمة. إن تحكيم العقل والتفكير مليّاً وتمحيص الحقائق وغربلتها من شوائب الخيال هو واجب وأمر حتمي. هذا ليس خياراً؛ بل هو الحلّ لتجنب الانجراف نحو التنافر والشك، يجب علينا العمل بصدق للحفاظ على ما نتمتع به من ثقة متبادلة.

عندما أتحدث عن هذه العلاقة، أيها السادة والسيدات، فأنا لا أتحدث فقط عن تعدّد تلك المصالح المتبادلة وعن غزارتها، وعن الجوانب المتعلقة بالدبلوماسية، والنفط، والتجارة، والأسلحة، والاستثمارات، والموارد المالية، والتعليم، والتدريب، والعلاقات التي تربط بين الناس في هذين البلدين. إنني أتحدث عن سنوات طويلة من العمل بين بلدَيْنا حول قضايا السلام العالمي، والسلام في الشرق الأوسط، وأمن واستقرار الاقتصاد العالمي، واستقرار أسعار النفط والسوق، ومواجهة قوى التطرف والإرهاب على الصعيدين الإقليمي والدولي. في العديد من المناسبات، وخلال هذه السنوات الطويلة، دفعت المملكة العربية السعودية ثمناً باهظاً للمحافظة على صورتها الناصعة وعلى سمعتها في العالم العربي من خلال التعاون والتماهي مع السياسات الأمريكية. لقد تحملنا هذه التكلفة لأننا نؤمن بقيمة صداقتنا معكم.

اليوم، ورغم ذلك، فإن العالم يتغير ويتحول. والركائز التي تستند إليها علاقتنا الاستراتيجية تتعرض لتحديات. لكن أهمية السعودية ومكانتها لم تتغير؛ المملكة هي قلب العالم الإسلامي؛ حيث يتجه نحو مليار ونصف المليار مسلم بوجوههم نحوها لأداء الصلاة خمس مرات في اليوم. وتمارس المملكة دوراً استراتيجيّاً على الصعيدين الإقليمي والدولي لتحقيق السلام والازدهار من خلال العمل مع الولايات المتحدة والحلفاء الآخرين لإنهاء الصراعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كما تقدّم المملكة أكثر من 4٪ من دخلها الفردي مساعدات للدول النامية والفقيرة. وبالأمس فقط أسقطت المملكة ديوناً بقيمة 6 مليارات دولار عن تلك الدول وأعفتها من السداد. نحن رصيد لأصدقائنا، ولسنا عبئاً. وبينما تجري عملية الإصلاح والتحول، يستمر في الوقت ذاته كفاحنا ضد قوى الظلام. كما أننا نواجه طموحات الهيمنة لدى القيادة الإيرانية، التي شهدنا مثالاً عليها في الدنمارك، والتي لا تتوقف أبداً عن تصدير أنشطتها الإرهابية. نحن ما زلنا نُقدّر شراكتنا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ونأمل في الحفاظ عليها. وآمل أن تستمر الولايات المتحدة في التعامل معنا بالمثل.

السيدات والسادة

لقد تم ابتذال كلمة "القيم" بشكل متكرر في أيامنا هذه، من قبل منتقدينا، في محاولة لإبعادنا بعضنا عن بعض. إن إحدى القيم التي نحتفظ ونعتز بها تُنسب إلى النبي عيسى، عليه السلام، التي تقول: "إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمِ الناس بالحجارة".

إن الدول التي عذّبت وأحرقت الأبرياء وشنت حرباً قتلت خلالها الآلاف من البشر بناء على معلومات مزيّفة ملفقّة؛ يجب أن تخجل عندما تنبري لتقدير وتقييم الآخرين. كما أن الدول التي اضطهدت الصحفيين وأخفت عدداً منهم لا ينبغي لها أن تتصدَّى للدفاع عن حرية التعبير. ومن القيم الأخرى التي نتمسَّك ونعمل بها: أن قتل شخص بريء يساوي قتل البشرية جمعاء. وقد جاء هذا في القرآن الكريم. إن قتل جمال خاشقجي مثل قتل البشرية جمعاء. إن الأطفال الفلسطينيين الأبرياء العُزّل يُذبحون كل يوم على يد الجيش الإسرائيلي. لقد أشار السيد "حسن" إلى ذبح الجيش الإسرائيلي للفلسطينيين الأبرياء في السابق دون العودة إلى مرجعية العدالة، ومع ذلك لا أرى نفس الصخب الإعلامي، والمطالبة بإحضار الجناة ومن أمرهم بقتل هؤلاء الأطفال أيّاً من كان أمام العدالة. إذن، أين نذهب من هذا؟ آمل أن نبقى أصدقاء ونسعى إلى تعزيز علاقتنا، لا أن ندمّرها.

السيدات والسادة

البراءة تنطبق بالقدر نفسه على المصلِّين اليهود الأحد عشر الذين تم ذبحهم في دار عبادتهم في بيتسبرغ. لقد قُتلت الإنسانية أكثر من مرة بقتلهم. دعونا نقف لحظة صمت لندعو لكل الضحايا الأبرياء برحمة الله.