نحن واليمن: التفسيرات المغلوطة لِتَدَخُّلٍ مشروع

التاريخ: الأحد، 20 يناير 2019م

تركي الفيصل

دأبت وسائلُ إعلام كثيرةٌ وجهاتٌ، معادية وغير معادية، محلية وإقليمية ودولية، على تقديم ما يجري في اليمن - من حرب أهلية وصراع سياسي داخلي - على أنَّ هناك حرباً سعودية يمنية، أو أنَّ هناك حرباً تشنها المملكة وحلفاؤها على اليمن، وأنَّ ما يتعرض له الشعب اليمني، منذ بدء عاصفة الحزم في الرابع من جُمادى الآخرة 1436هـ الموافق 25 مارس 2015م، من معاناة إنسانية، وما تتعرض له الدولة اليمنية من تفكُّك سياسي واجتماعي واقتصادي ومذهبي، هو من تداعيات تلك الحرب المزعومة. وليس هناك تفسيراً يجافي الحقيقة مثل هذا التفسير الذي يأخذ الأزمة اليمنية القائمة بعيداً عن أسبابها الموضوعية، وهي أسباب يمنية بحتة؛ ولا يسمح أيضاً بالوصول إلى حلول تتعامل مع هذه الأسباب وتؤدي إلى حل وطني مستدام للأزمة الوطنية اليمنية.

   لقد خرجت جموع من اليمنيين في عام 1432هـ الموافق 2011م، كما خرج غيرهم في دول عربية أخرى في سياق ما سُمِّي "بالربيع العربي"، تطالب بالتغيير، وكان يحدوهم طموح إلى تغيير يقوم على عقد اجتماعي جديد ينتقل بالدولة اليمنية والشعب اليمني إلى مستقبل أفضل. ولم ينزلق اليمنيون - في حينه - إلى ما انزلقت إليه دول عربية أخرى من فوضى وصراع مسلح، وتغلبت الحكمة اليمانية بقبول جهود الأشقاء في المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى في تحقيق تحوُّل سلمي في السلطة وإقامة سلطة انتقالية، لفترة انتقالية محددة، يتم خلالها صوغ هذا العقد الاجتماعي الجديد الذي يرتضيه اليمنيون جميعاً. وكانت المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي وَقَّعت عليها كافة القوى السياسية اليمنية، بمن فيهم الحوثيون، هي المرجعية المعتمدة لهذا التحول السلمي في السلطة، وقد شكلت خريطةَ طريقٍ لمستقبل اليمن السياسي. تضمنت هذه المبادرة وآليتها التنفيذية عَقْدُ مؤتمر للحوار الوطني لوضع رؤية جديدة لمستقبل البلاد؛ وصياغة دستور والاستفتاء عليه، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية بناء على الدستور الجديد. نجح اليمنيون من جديد، وعقدوا حوارهم الوطني الشامل، الذي استمر من تاريخ 6 جُمادى الأولى 1434هـ، إلى 23 ربيع الأول 1435هـ الموافق 18 مارس 2013م، إلى 25 يناير 2014م. لقد اتفق اليمنيون على عقدهم الاجتماعي الجديد، وعلى مخرجات هذا الحوار، والبدء في تنفيذ ما اتفقوا عليه. وقد غلب التفاؤل على الجميع بهذا الإنجاز الحضاري، وأن اليمن في طريقه إلى النجاة من مأزق "الربيع العربي". ولم يكن هناك من هو أسعد من المملكة العربية السعودية بهذا الإنجاز الوطني اليمني الذي كان سيفرز شرعيةً جديدة في اليمن يتم من خلالها استمرار دعم اليمن ودعم تنميته وأمنه واستقراره.

لكنْ، لا تجرى الرياح دائماً بما تشتهي السفن، فالحوثيون، وبتواطؤ من الرئيس السابق علي عبدالله صالح وأتباعه - وجميعهم شركاء في الحوار الوطني ومُوقِّعون على مخرجاته - كانوا يتربصون بهذا الإنجاز ويتحيَّنون الانقلاب عليه لأسبابهم النفعية، وقد يكون منها سبب "مذهبي" غير وطني، وكأنهم لا يريدون لليمن أن يستقر ويتقدم نحو المستقبل بتوافق ومشاركة جميع أبنائه. لقد استغل هؤلاء هشاشة وضعف سلطة المرحلة الانتقالية للانقلاب على السلطة الانتقالية الشرعية والذهاب باليمن إلى منحى آخر. لم يترك انقلاب الحوثيين وأنصارهم واحتلالهم صنعاء في ذي القعدة 1435هـ الموافق سبتمبر 2014م، وحبسهم رموز السلطة الشرعية خياراً لهذه السلطة إلا بمواجهة هذا العدوان على الشرعية، ولاسيما بعدما تبيَّن أن هدف هؤلاء أكبر مما يعلنون؛ حيث بدأوا بالتوسع في مناطق أخرى في اليمن وإقامة سلطتهم الخاصة. لقد أرادوا اختطاف الدولة اليمنية وفرض رؤيتهم ونظامهم وعقيدتهم المذهبية التوسعية المرتبطة بإيران على اليمن، وعلى حساب الإجماع الوطني اليمني المتمثل في مخرجات الحوار الوطني. إن هذا هو السبب الرئيس لما يجري في اليمن، ويتحمل مسؤوليته - أولاً وأخيراً - هؤلاء الانقلابيون، ولن يكون هناك مخرج من هذه الأزمة إلا بنكوص هؤلاء عن انقلابهم واستعادة الدولة اليمنية ومؤسساتها بكل الوسائل.

لم يكن لدى الشرعية اليمنية، المتمثلة في الرئيس عبدربه منصور هادي وحكومته، من وسيلة تكفل ردَّ هذا العدوان واستعادة الدولة إلا طلب المعونة من الشقيق الأقرب، وهو المملكة العربية السعودية المرتبط أمنها الوطني بأمن اليمن واستقراره. لقد طلب الرئيس هادي رسميّاً من المملكة مساعدة السلطة الشرعية على رد العدوان واستعادة الدولة اليمنية، وقد طلبت منه المملكة تحرير رسالة رسمية بطلبه وإرسالها، وإرسال نسخه منها إلى الامم المتحدة والجامعة العربية.
 وكان الرئيس هادي، حسب قوله، أمام خيارين: "إما تسليم اليمن لإيران، أو طلب التدخل من الإخوة في الخليج".

 لم يتأخر إخوته الخليجيون، ومن ساندهم في التحالف العربي، عن مَدِّ يد العون لاستعادة الدولة اليمنية والسلطة والمؤسسات الشرعية، ومنذ أربعة أعوام والمساندة مستمرة باستمرار مشروعيتها، وباستمرار حاجة الشرعية اليمنية إلى هذه المساندة المدعومة بالشرعية الدولية المتمثلة في قرار مجلس الأمن رقم (2216) الذي يؤكد دعم الشرعية اليمنية واستعادة مؤسسات الدولة، ودعم جهود مجلس التعاون الخليجي في اليمن. 

إن مساندة المملكة ودعمها للشرعية اليمنية، هي جزء من تاريخ العلاقات السعودية اليمنية، يرتبط مباشرة بالسياسة الخارجية للمملكة وأمنها الوطني. وعليه، يمكن اختزال هذه السياسة المعتمدة نحو اليمن منذ عهد الملك عبدالعزيز، بالقول: إن أمن اليمن واستقراره، هو من أمن المملكة واستقرارها، وإن زعزعة أمن اليمن واستقراره يؤثر مباشرة على أمن المملكة الوطني، ويشكل تهديداً لها. وعليه، ينبغي أن يسود الأمن والاستقرار في اليمن في ظل أي نظام سياسي يرتضيه اليمنيون، ويحفظ التوازن المجتمعي اليمني، ويضمن أمن اليمن واستقراره وأمن الحدود مع المملكة، وفي الوقت نفسه ضمان ألاَّ يكون أي نظام أو قيادة تحكم اليمن في وضع عدائي تجاهها. ومن هنا، كانت المملكة دائماً في مقدمة مؤيدي الشرعية في اليمن.

وإذ يعيد التاريخ نفسه - بشكل أو بآخر - مع اختلاف الظروف والأزمان، فإن المملكة دعمت الشرعية اليمنية في أعقاب ثورة ربيع الآخر 1382هـ الموافق  سبتمبر 1962م المتمثلة في الملكيين مقابل الجمهوريين الذين كانوا يناصبون المملكة العداء، واستمرت المملكة في دعم الشرعية طوال سنين حربهم الأهلية الثماني حتى توصل الفريقان المتنازعان إلى تسوية سياسية ارتضاها اليمنيون، فدعمت المملكة الشرعية الجديدة المنبثقة عنها. إن دعم الشرعية القائمة في اليمن، هو جزء من السياسة السعودية الثابتة على مرِّ الدهور، ودعم مفهوم الشرعية اليوم هو في سياق هذه السياسة. ولن تتوانى المملكة أبداً عن دعم ما يتفق عليه اليمنيون في أي تسوية تعيد الأمور إلى الشرعية، أو تفضي إلى شرعية جديدة قائمة على مخرجات الحوار الوطني واتفاقاً مع المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية. والمملكة لم تتأخر قط عن دعم الجهود الدولية التي تسعى إلى توافق اليمنيين بالعودة إلى الحالة الشرعية، وأول هذه الجهود، هو دعم مؤتمر الكويت، وآخرها مشاورات ستوكهولم الأخيرة. ولكنْ، سيبقى موقف المملكة واضحاً وصريحاً بأنه لا بديل عن عودة الشرعية إلى الدولة اليمنية ومشاركة جميع القوى اليمنية، بمن فيهم الحوثيون، في العودة إلى مخرجات حوارهم الوطني، وعدم السماح لأية قوى مسلحة أو مليشياوية خارج سلطة الشرعية، كي تهدد أمنها واستقرارها وأمن المملكة واستقرارها.

إن تجاهل كافة القوى المحلية والإقليمية والدولية لحقيقة تَدَخُّل المملكة في اليمن وأسبابه وظروفه، ومحاولة تحميلها مسؤولية المعاناة اليمنية، هو افتئات على الواقع وظلم لجهود المملكة. ففي الوقت الذي تدعم فيه المملكة وحلفاؤها الشرعية اليمنية؛ فإنما تدافع عن أمنها واستقرارها في الوقت نفسه. وهي، وإن دعمت الشرعية عسكرياً، فليست في حرب مع اليمن ولا تَشُنُّ عليه حرباً. إنها تستضيف ملايين اليمنيين، وقدمت مساعدات إغاثية وتنموية وإنسانية تجاوزت 11 مليار دولار منذ عام 1436هـ الموافق  2015م. إن المسؤولية عن استمرار هذه المعاناة تقع على من قام بالانقلاب على إجماع اليمنيين في حوارهم الوطني خدمةً لأهداف غير يمنية، وليس على المملكة أو أشقائها في التحالف العربي.