حراك الجزائر: أزمة النظام بين الإصلاح أو القطيعة

رقم: 43
د. محمد السبيطلي

كشفت الاحتجاجات الشعبية الحاشدة التي تشهدها مدن البلاد الجزائرية عن عمق أزمة نظام طال أمدها. وكان ترشح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة بمنزلة الشرارة لاندلاع التظاهرات الشعبية المكثفة والمتصاعدة منذ يوم 22 فبراير 2019م، وهو ما تسبب في تعقيدات سياسية ودستورية غير معهودة في الجزائر. 

وكانت قد شهدت الجزائر في السنوات الأخيرة سلسلة تظاهرات عدّة. لكنها كانت قطاعية، وذات مطالب مهنية وفئوية. كما شهدت البلاد بعض الاحتجاجات المحلية. وهو ما أوحى للكثير من المحللين أن الجمهور الجزائري لا يخرج بكثافة في احتجاجات ذات طابع ومطالب سياسية. إنما تحركه حاجاته الاقتصادية أو المهنية. فلم تعمَّ الاحتجاجات المدن الجزائرية – بما في ذلك العاصمة – مثل ما حدث في نهاية شهر فبراير ومارس 2019م. خصوصاً أن العاصمة كان يمنع فيها التظاهر منذ حوالي عشرين عاماً. 

 فالأزمة التي أثارها ترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة بينت المأزق السياسي لنظام ظل يتردد في القيام بإصلاحات عميقة وحقيقية تيسّر عملية الانتقال الديمقراطي إلى نظام تعددي وتداول سلمي على السلطة. وقد تعمقت الأزمة بفعل تعدد الفاعلين داخل السلطة وصراع الأجنحة (أو ما يعبّر عنه لدى النخب السياسية الجزائرية بعُصَب النظام) ومراكز القوى في دوائر النظام، وفقدان العملية السياسية مصداقيتها رغم اعتماد آليات الانتخابات بوصفها مصدراً للشرعية الشعبية.

إن المأزق السياسي الحالي للنظام الجزائري لم يسبق له مثيل منذ تاريخ استقلال الجزائر من الاستعمار الفرنسي سنة 1962م. فالأزمات التي كان شهدها في السابق، وخاصة منها في نهاية الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي - رغم خطورتها، إلا أنها كانت في مواجهة اضطرابات اجتماعية على خلفية أزمة اقتصادية، ثم تمت في مواجهة جهة حزبية معيّنة، تمكن الجيش الجزائري من تجاوزها  باستحداث مسار سياسي فاقد للشرعية الديمقراطية و يسير عكس الاتجاه الذي افتتح في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، لكنه تمكن من تأمين استمرار النظام ذاته في سياق مواجهة دامية كان ثمنها مكلفاً بشرياً وسياسياً واقتصادياً. 

وكان الفضل في الخروج من نفق أزمة التسعينيات يعود في الحقيقة للرئيس بوتفليقة، الذي سن قانون الوئام المدني، وهو ما أدى إلى إعادة التلاحم للشعب الجزائري وافتتاح عهد جديد من المصالحة الوطنية. إلا أن المسار توقف عند هذا الإنجاز الذي على أهميته لن يكون كافياً للجيل الجديد الذي لم يعش المرحلة الصعبة للتسعينيات من القرن المنصرم. 

إن تصاعد موجة الاحتجاجات بهذه الصورة التي كانت عليها منذ نهاية شهر فبراير اختلف عن احتجاجات 2011م في خضم الموجة الأولى من الثورات العربية. لقد تمكن النظام الجزائري حينها بالنأي بالبلاد عن حركة التغيير التي اجتاحت بلدان المغرب العربي خاصة، وبعض الدول العربية الأخرى. وكان ذلك بالتذكير بما شهدته البلاد من موجة عنف تواصلت لعشر سنوات دامية في التسعينيات من القرن العشرين. لكن الرئيس بوتفليقة وعد حينها بإصلاحات عميقة للنظام وتحوير معتبر للدستور. إلا أن الحصيلة لم تكن في المستوى المنتظر من قبل الجزائريين. وفي السنوات الأخيرة ومع التراجع الكبير لمداخيل البلاد من المحروقات بفعل انهيار أسعارها في الأسواق العالمية شهدت البلاد صعوبات اقتصادية عميقة زادت من عجز الدولة على تلبية حاجيات السكان ومطالبهم. وفي سياق كل ذلك كانت النخب الحاكمة تتصارع بخصوص خلافة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. هكذا تضافرت عوامل عدّة أدت إلى الانفجار الذي شهده الشارع الجزائري وإن بطريقة سلمية. 

واليوم وفي سن الثانية والثمانين من عمره، وبعد أن حكم الجزائر لمدة عشرين عاماً، ومع اندلاع الاحتجاجات، يعد الرئيس بوتفليقة شعبه أنه في حال فوزه بعهدة خامسة سوف ينظم ندوة وطنية، وسن دستور جديد يطرح للتزكية من قبل الشعب، والقيام بإصلاحات للنظام من أجل جمهورية ثانية. إلا أن ذلك جاء بعد فوات الأوان. وهو ما اضطره إلى التراجع عن الولاية الخامسة رغم الوعود من اختصارها في سنة واحدة.